17 - 07 - 2024

تباريح | أيام قصر العيني

تباريح | أيام قصر العيني

(أرشيف المشهد)

30-9-2012 | 00:29

كنت أستعجل الوقت كي يمر لأقضي صبيحة عيد الفطر بين أهلي في المنيا ، لكن كان هناك من يجد في طلبي دون أن أدري ، ويعد الثواني والدقائق حتى إذا حانت اللحظة قطف وردة الروح ومضى .

لبرهة أدركت أني سأمضي تاركا الدنيا واطمأنت نفسي لكون "شمسي تتدلي نحو الغروب" في يوم بشر ومغفرة ، وانعكس ذلك في سكينة ظهرت بوادرها وأنا أحاول تهدئة روع أسرتي الصغيرة والتخفيف من جزعها بعد أن أفقت من غيبوبة استمرت دقائق ، لكن كان يسيطر علي هدوء بال لم أذقه طيلة حياتي التي توشك أن تبلغ عتبة الخمسين.

يقسم محمد ابني أني مت موتا مؤكدا وأنه عاين علامات ذلك حين حملني بعد سقوطي على الأرض ، ربما يكون ذلك قد حدث فعلا ، وعدت لحكمة لا أعلمها ، فالأمر تكرر بعدها بثلاثة أيام وأنا محتجز في قصر العيني الفرنساوي ، حيث توقف قلبي ، ولم تفلح صدمتان كهربيتان في إعادته ، غير أنه عاد في الصدمة الثالثة والتي يفقد الأطباء بعدها الأمل في النجاة حسبما أخبروني.

في خيالي .. كثيرا ما رغبت في خوض مغامرة الموت ، فقد قرأت بتعمق تجارب العائدين منه ، عن أرواح تعبر أنفاقا في نهايتها ضوء مبهر ، وأرواح أخرى تترك الجسد وتطير إلى سقف الغرفة لتراقب من بعيد ما يفعله الأطباء بالجسد ، وظل لدي شك في صدقية هذه الروايات رغم أن بعضها تضمنته دراسات علمية لا محل للشك فيها ، وأثبتت التجربة التي مررت بها ، أن الإدراك هو أول ما يغيب ، وذلك من رحمة الله بنا ، وحين يغيب الإدراك وتنقطع صلتك بالإحساس ، فإن كل أوجاع قد تمر بها يعيشها من حولك ، أما أنت فلا صلة بينك وبين ما يعانيه الجسد الذي تتلقفه أيادي الأطباء محاولة إسعافه .

حين تعود من الموت ترى عيونا مشفقة دامعة تهون عليك متاعب الدنيا ومن فيها ، وتتمنى لو طال عمرك ليس رغبة في ازدياد من الحياة ، ولكن لترد قدر ما تستطيع لأولئك الذين يعتبرون الحياة لا معنى لها في غيابك.

لا أنسى أبدا تلك التي ظلت تنام على بلاط المستشفى رافضة فكرة العودة إلى المنزل دون أن أعود بصحبتها ، ولا من كان يتصرف كنمر جارح في مواجهة إدارة مستشفى يخيم عليها الإهمال ، وفي مواجهة دولة تتثاءب وتتكاسل في توفير نفقات علاج لواحد من أبنائها مهنته الكتابة ، في الوقت الذي تنشط فيه إذا ما تعلق الأمر براقصة من الدرجة العاشرة . لا فرق كبيرا في ذلك بين "دولة" مبارك و"دولة" الإخوان.
***

"أحس أن مكان قلبي هواء" كانت تلك آخر عبارة أنطق بها. ظن المقربون الذين كانوا بجواري أني أمزح ، فأخذوا يمزحون .. قالت إحداهن : لابد أن ذلك بسبب الخمسمائة أنثى اللاتي يتزاحمن في قلبك بحسب مقولة عزازي علي عزازي.. سمعت العبارة ولم أعرف إذا ما كنت استطعت الابتسام أم لا ؟ لكنها كانت آخر ما أسمعه .

بدأت الأصوات تتحول في أذني إلى لغة "كأني لا أعرفها" ثم تتلاشى وتنسحب من أذني رويدا رويدا بعد أن تحولت إلى مجرد طنين ، توقف إدراكي عند عتمة خفيفة وكأن بابا أغلق ومنع الضوء وأنتظر فتح باب مقابل لكنه لم ينفتح.

يقول من حولي أني شهقت شهقة واحدة بعدها انقطع حبل الحياة ، لم أشعر بخوف رغم إدراكي أني أواجه الموت ، ولم أحس بألم ، بل كأني خطوت بقدمي من عالم مليء بالهواجس إلى عالم مطمئن .

حسب رواية من حولي ، فإن فريقا من الأطباء والممرضين تزاحموا حولي وأخذوا يجرون صدمة كهربية بعد أخرى للقلب دون أن يستجيب ، فأدخلوا خرطوما لشفط السوائل من الرئة حتى أتمكن من التنفس ، بعدها استجاب القلب لصدمة كهربائية . وعلى عجل أنزلوني من غرفتي بالمستشفى إلى العناية المركزة .. كل ذلك لم أحس بشيء منه .

عندما بدأت أدرك أحسست بطنين ، ثم سمعت أصوات من حولي دون أن أعي ما يقولون ، وبدا لي كأن أحدا ينقلني مسافة طويلة بعدها فتحت عيني لأرى سقف غرفة العناية المركزة ، وكان أول ما وقعت عليه عيني سهما مرسوما على السقف وبجانبه عبارة "اتجاه القبلة" فنطقت "لك الحمد" .. وجدت نفسي ارتدي روب العمليات فبدأت أتحسس جسدي .. مع حركة يدي على صدري أحسست بأوجاع من أثر الصدمات الكهربائية وأخذت أسأل من كانوا حولي عما إن كنت قد أجريت عملية جراحية ، فتلقيت إجابة بالنفي. وحين سألت بإلحاح : ماذا حدث ؟؟ لم يجبني أحد بغير عبارة : الحمد لله أنك عدت ، فبدأت أدرك حقيقة ما جرى.

أول ما خطر ببالي مقطع من قصيدة "حلاج الوقت" للشاعر الأردني طاهر رياض يقول : "كيف رأيت الموت؟؟ - كبشا أملح يذبح .. لكني حين دنوت لم أر موتا . كانت أصوات من ياقوت تهوي في العتمة"، وبالمصادفة حضر طاهر رياض إلى القاهرة بعد نحو أسبوعين من تلك الواقعة وزارني في بيتي (بصحبة صديق مشترك) على غير معرفة سابقة ، ورويت له الواقعة ، فاندهش بشدة من التطابق التقريبي بين الخيال والواقع.

مقالات اخرى للكاتب

تباريح | مصر ليست مجرد أغنية!